فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} قال الزمخشري: {فإنهم عبادك} والذين عذبتهم جاحدين لآياتك، مكذبين لأنبيائك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز القوي على الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب.
فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار، فكيف قال: {وإن تغفر لهم}؟ قلت: ما قال: إنك تغفر لهم ولكنه بنى الكلام على أن يقال: إن عذبتهم عدلت لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول، بل متى كان المجرم أعظم جرمًا كان العفو عنه أحسن.
وهذا من الزمخشري ميل إلى مذاهب أهل السنة فإن غفران الكفر جائز عندهم وعند جمهور البصريين من المعتزلة عقلًا، قالوا: لأن العقاب حق لله على الذنب وفي إسقاطه منفعة، وليس في إسقاطه على الله مضرة، فوجب أن يكون حسنًا ودل الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودًا في شرع عيسى عليه السلام، انتهى كلام جمهور البصريين من المعتزلة.
وقال أهل السنة: مقصود عيسى تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله: {فإنك أنت العزيز الحكيم} أي: قادر على ما تريد في كل ما تفعل لا اعتراض عليك.
وقيل لما قال لعيسى: {أأنت قلت للناس} الآية.
علم أن قومًا من النصارى حكوا هذا الكلام عنه والحاكي هذا الكفر لا يكون كافرًا بل، مذنبًا حيث كذب وغفران الذنب جائز فلهذا قال: {وإن تغفر لهم}.
وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا المعاصي وعملوا بعده بما لم يأمرهم به إلا أنهم على عمود دينه، فقال: {وإن تغفر لهم} ما أحدثوا بعدي من المعاصي وهذا يتوجه على قول من قال: إن قول الله له {أأنت قلت للناس} كان وقت الرفع، لأنه قال ذلك وهم أحياء لا يدري ما يموتون عليه.
وقيل: الضمير في تعذبهم عائد على من مات كافرًا وفي {وإن تغفر لهم} عائد على من تاب منهم قبل الموت.
وقيل: قال ذلك على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم، مع علمه بأن الكفار لا يغفر لهم ولهذا لم يقل لأنهم عصوك؟ انتهى وهذا فيه بعد لأن الاستعطاف لا يحسن إلا لمن يرجى له العفو والتخفيف، والكفار لا يرجى لهم ذلك والذي أختاره من هذه الأقوال أن قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} قول قد صدر، ومعنى يعطفه على ما صدر ومضى، ومجيئه بإذ التي هي ظرف لما مضى ويقال التي هي حقيقة في الماضي فجميع ما جاء في هذه الآيات من إذ قال هو محمول على أصل وضعه، وإذا كان كذلك فقول عيسى {وإن تغفر لهم} فعبر بالسبب عن المسبب لأنه معلوم أن الغفران مرتب على التوبة وإذا كان هذا القول في غير وقت الآخرة، كانوا في معرض أن يرد فيهم التعذيب أو المغفرة الناشئة عن التوبة، وظاهر قوله: {فإنك أنت العزيز الحكيم} إنه جواب الشرط والمعنى فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله تضل من تشاء وتهدي من تشاء، وقرأت جماعة فإنك أنت الغفور الرحيم على ما يقتضيه قوله: {وإن تغفر لهم} قال عياض بن موسى: وليست من المصحف.
وقال أبو بكر بن الأنباري: وقد طعن على القرآن من قال: إن قوله: {فإنك أنت العزيز الحكيم} لا يناسب قوله: {وإن تغفر لهم} لأن المناسب فإنك أنت الغفور الرحيم.
والجواب: أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله تعالى ومتى نقل إلى ما قال هذا الطاعن ضعف معناه، فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلق وهو ما أنزله الله تعالى وأجمع على قراءته المسلمون معذوق بالشرطين كلاهما أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه إن تعذبهم فأنت عزيز حكيم وإن تغفر لهم فأنت العزيز الحكيم في الأمرين كلاهما من التعذيب والغفران، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه، وأنه يجمع الشرطين ولم يصلح الغفور الرحيم أن يحتمل ما احتمله العزيز الحكيم؛ انتهى.
وأما قول من ذهب إلى أن في الكلام تقديمًا وتأخير تقديره إن تعذبهم فإنك أنت العزيز وإن تغفر لهم فإنهم عبادك، فليس بشيء وهو قول من اجترأ على كتاب الله بغير علم.
روى النسائي عن أبي ذر قال: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أصبح بهذه الآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}. اهـ.

.قال ابن جزي:

{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}.
فيها سؤالان الأول كيف قال وإن تغفر لهم وهم كفار والكفار لا يغفر لهم؟ والجواب أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وأنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه، لأن الخلق عباده، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته، وفرق بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء، فلا إشكال، لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذ أحياء، وكل حيّ معرض للتوبة، السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم، لقوله: وإن تغفر لهم والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل: فإنك أنت الغفور الرحيم؟ والجواب من ثلاثة أوجه. الأول: يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله والتعظيم له، كان قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم له، والعزة تقتضي التعظيم له، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد، ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم المغفرة؛ لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. الجواب الثاني: قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم؛ لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم. فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب. إذ لا تطلب المغفرة للكفار، وهذا قريب من قولنا. الثالث: حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافًا وجواب إن في قوله فإنهم عبادك كأنه قال إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} شرط، وجوابه {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} مثله.
روَى النَّسائي عن أبي ذَرّ قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية ليلةً حتى أَصبح، والآية {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}.
واختلف في تأويله فقيل: قاله على وجه الاستعطاف لهم، والرأفة بهم، كما يستَعطف السيد لعبده؛ ولهذا لم يقل: فإنهم عَصَوك.
وقيل: قاله على وجه التسليم لأمره، والاستجارة من عذابه، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر.
وقيل الهاء والميم في {إِن تُعَذِّبْهُمْ}.
لمن مات منهم على الكفر، والهاء والميم في {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} لمن تاب منهم قبل الموت؛ وهذا حسن.
وأما قول من قال: إن عيسى عليه السلام لم يعلم أن الكافر لا يغفر له فقول مجترىء على كتاب الله عز وجل؛ لأن الأخبار من الله عز وجل لا تُنْسَخ.
وقيل: كان عند عيسى أنهم أحدثوا معاصي، وعملوا بعده بما لم يأمرهم به، إلا أنهم على عَمُود دينه، فقال: وإن تغفِر لهم ما أحدثوا بعدي من المعاصي.
وقال: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} ولم يقل: فإنك أنت الغفور الرحيم على ما تقتضيه القصة من التسليم لأمره، والتفويض لحكمه.
ولو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة لمن مات على شِرْكه وذلك مستحيل؛ فالتقدير إن تبقِهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذّبهم فإنهم عبادك، وإن تَهدهم إلى توحيدك وطاعتك فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده؛ الحكيم فيما تفعله؛ تضل من تشاء وتهدي من تشاء.
وقد قرأ جماعة: {فإنك أنت الغفور الرحيم} وليست من المصحف.
ذكره القاضي عِياض في كتاب «الشّفا» وقال أبو بكر الأنْبَاري: وقد طعن على القرآن من قال إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} ليس بمُشاكِل لقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ}؛ لأن الذي يُشاكل المغفرة فإنك أنت الغفور الرحيم والجواب أنه لا يحتمل إلا ما أنزله الله، ومتى نقل إلى الذي نقله إليه ضَعُف معناه؛ فإنه ينفرد الغفور الرحيم بالشرط الثاني فلا يكون له بالشرط الأوّل تعلّق، وهو على ما أنزله الله عز وجل، واجتمع على قراءته المسلمون مَقْرُونٌ بالشرطين كليهما أوّلهما وآخرهما؛ إذ تلخيصه إن تعذبهم فإنك أنت عزيز حكيم، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم في الأمرين كليهما من التّعذيب والغفران، فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان لعمومه؛ فإنه يجمع الشرطين، ولم يصلح الغفور الرحيم إذ لم يحتمل من العموم ما احتمله العزيز الحكيم، وما شهد بتعظيم الله تعالى وعدله والثناء عليه في الآية كلها والشرطين المذكورين أولى وأثبت معنى في الآية مما يصلح لبعض الكلام دون بعض.
خرّج مسلم من غير طريق عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وقال عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي» وبكى فقال الله عز وجل: «يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسَلْه ما يُبكيك» فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نَسوءك» وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه إن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك، ووجه الكلام على نسَقِهِ أولى لما بيّناه. وبالله التوفيق. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي القويُّ القادر على جميع المقدورات، ومن جملتها الثوابُ والعقاب {الحكيم} الذي لا يُريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمةٌ ومصلحة، فإن المغفرة مستحسَنة لكل مجرم، فإن عذّبت فعدلٌ، وإن غفرت ففَضْلٌ، وعدمُ غفرانِ الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد، فلا امتناعَ فيه لذاته ليمنعَ الترديدُ بالنسبة إلى فرقتين، والمعنى إن تعذبْهم أي مَنْ كفر منهم، وإن تغفرْ لهم أي من آمن منهم. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} على معنى إن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه، وقيل: على معنى: إن تعذبهم لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وماذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه، وقيل: المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه.
{وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرمًا كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن.